الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وَالْعِبْرَةُ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنْ يَتَفَكَّرَ تَالِي الْقُرْآنِ فِي تَأْثِيرِ الْإِيمَانِ وَالْوَحْيِ فِي مُوسَى وَهَارُونَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ؛ إِذْ تَصَدَّيَا لِأَعْظَمِ مَلِكٍ فِي أَعْظَمِ دَوْلَةٍ فِي الْأَرْضِ، قَاهِرَةٍ لِقَوْمِهِمَا، وَمُعَبِّدَةٍ لَهُمْ فِي خِدْمَتِهَا مُنْذُ قُرُونٍ كَثِيرَةٍ، فَدَعَوَاهُ إِلَى الرُّجُوعِ عَنِ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ، وَتَعْبِيدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَأَنْذَرَاهُ وَهَدَّدَاهُ، وَمَا زَالَا يُكَافِحَانِهِ بِالْحُجَجِ وَالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ حَتَّى أَظْفَرَهُمَا اللهُ تَعَالَى بِهِ، وَأَنْقَذَا قَوْمَهُمَا مِنْ ظُلْمِهِ وَظُلْمِ قَوْمِهِ.فَجَدِيرٌ بِالْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ تَعَالَى وَرُسُلِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَنْتَقِلُوا مِنَ التَّفَكُّرِ فِي هَذَا إِلَى التَّفَكُّرِ فِي وَعْدِ اللهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ، كَمَا وَعَدَ الْمُرْسَلِينَ إِذَا هُمْ قَامُوا بِمَا أَمَرَهُمْ تَعَالَى بِهِ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، وَأَلَّا يَسْتَعْظِمُوا فِي هَذِهِ السَّبِيلِ قُوَّةَ الدَّوْلَةِ الظَّالِمَةِ لَهُمْ، فَإِنَّ قُوَّةَ الْحَقِّ الَّتِي نَصَرَهَا اللهُ تَعَالَى بِرَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ عَلَى أَعْظَمِ الدُّوَلِ لَا تُغْلَبُ إِذَا نَصَرْنَاهَا، وَنَحْنُ مِئَاتُ الْمَلَايِينِ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ} (47: 7) وَيَقُولُ: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (30: 47).الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ تَجَدَّدَ عِنْدَنَا فِي هَذَا الزَّمَانِ أَمْرٌ عَظِيمٌ يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَرْضِ الْمُبَارَكَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَهُوَ مُحَاوَلَةُ الْيَهُودِ انْتِزَاعَهَا مِنْ أَيْدِي أَهْلِهَا الْعَرَبِ، وَتَنَازَعُ الْفَرِيقَيْنِ فِي التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَ وَعْدِ اللهِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بِهَذِهِ الْأَرْضِ، وَمَا أَنْجَزَهُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَمِنَ الْمُسْتَحِقِّ لَهَا فِي هَذَا الْعَصْرِ، فَلْيَتَأَمَّلِ الْمُعْتَبِرُ فِي وَعْدِ اللهِ تَعَالَى بِهَا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ وَعْدِهِ بِهَا وَبِغَيْرِهَا لِلْعَرَبِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ عَلَى لِسَانِ خَاتَمِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، وَآلِهِمُ الصَّالِحِينَ الْمُصْلِحِينَ، وَلَعْنَتُهُ وَخِزْيُهُ عَلَى الْفَاسِدِينَ الْمُفْسِدِينَ الْمُضِرِّينَ. فَقَدْ أَنْجَزَ اللهُ تَعَالَى وَعْدَهُ لِلْفَرِيقَيْنِ عِنْدَمَا كَانُوا مُتَّقِينَ، وَأَخْطَأَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ فِي عَصْرِ رَسُولِهِمْ فَأَدَّبَهُمِ اللهُ تَعَالَى بِمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي الْكِتَابِ الْمُبِينِ.أَرَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمْ مُوسَى مِنْ مِصْرَ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ تِلْكَ الْأَرْضُ، بِغَيْرِ عَمَلٍ مِنْهُمْ وَلَا سَعْيٍ، فَامْتَنَعُوا مِنْ قِتَالِ مَنْ فِيهَا مِنَ الْجَبَّارِينَ، قَالُوا لِمُوسَى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (5: 24) فَحَرَّمَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ، كَمَا عَرَضَ الْغُرُورُ لِبَعْضِ بَنِي إِسْمَاعِيلَ فِي عَصْرِ الرَّسُولِ الْأَعْظَمِ بِمَا كَانَ مِنْ نَصْرِ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ مَعَ قِلَّةِ الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ وَالزَّادِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يُنْصَرُونَ كَمَا وُعِدُوا، وَإِنْ قَصَّرُوا فِيمَا أُمِرُوا، فَلَمَّا أُصِيبُوا بِهِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ تَعَجَّبُوا وَاسْتَفْهَمُوا، فَأَجَابَهُمْ اللهُ تَعَالَى بِمَا عَلِمُوا بِهِ أَنَّ وَعْدَهُ الْمُطْلَقَ فِي قَوْلِهِ: {كَتَبَ اللهِ لِأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} (58: 21) وَقَوْلُهُ: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (30: 47) مُقَيَّدٌ بِمَا فِي الْآيَاتِ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِ: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ} (47: 7) {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (8: 46) أَجَابَهُمْ بِقَوْلِهِ: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} (3: 165) إِلَى آخِرِ مَا فَصَّلْنَا فِي تَفْسِيرِهَا مَعَ سِيَاقِهَا مِنَ الْجُزْءِ الرَّابِعِ.نَعَمْ إِنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْجَزَ وَعْدَهُ الْأَوَّلَ لِإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بِجَعْلِ هَذِهِ الْأَرْضِ لِذُرِّيَّتِهِ، فَجَعَلَهَا أَوَّلًا لِلْمُتَّقِينَ مِنْ آلِ إِسْحَاقَ، ثُمَّ نَزَعَهَا مِنْهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، ثُمَّ أَعْطَاهَا لِلْمُتَّقِينَ مِنْ آلِ إِسْمَاعِيلَ، ثُمَّ انْتَزَعَ السُّلْطَانَ عَلَيْهَا مِنْهُمْ أَيْضًا بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَتَجَدَّدَ التَّنَازُعُ فِي رَقَبَتِهَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ- بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَبَنِي إِسْمَاعِيلَ- بِإِغْرَاءِ الْإِنْكِلِيزِ، الَّذِينَ اسْتَوْلَوْا عَلَيْهَا، وَأَوْقَعُوا الشِّقَاقَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِيهَا، وَهُمْ أَحَذَقُ الْخَلْقِ فِي ضَرْبِ الشُّعُوبِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، وَسَتَكُونُ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ. بِحَسَبِ سُنَّةِ اللهِ فِي الْبَشَرِ أَجْمَعِينَ، فَلَا يَغْتَرَّنَّ قَوْمُنَا بِالْأَوْهَامِ، وَلَا يَتَّكِلنَّ عَلَى الْمُتَّجِرِينَ بِالْأَقْوَامِ، وَلَا يَنْخَدِعَنَّ بَعْدُ بِشَقَاشِقِ الْكَلَامِ، وَلَا يَنُوطُنَّ الزَّعَامَةَ بِأَصْحَابِ الْأَنْسَابِ الْفَاقِدِينَ لِلْعِلْمِ وَالِاسْتِقَامَةِ وَسَائِرِ الْأَسْبَابِ، وَلاسيما مَنْ ثَبَتَتْ مُوَالَاتُهُمْ لِأَعْدَاءِ الْبِلَادِ، وَسَالِبِي اسْتِقْلَالِهَا، وَوَاضِعِي الْخُطَّةِ الشَّيْطَانِيَّةِ لِانْتِزَاعِ رَقَبَتِهَا مِنْ أَهْلِهَا، وَالْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ بِالِانْقِرَاضِ مِنْهَا بِتَعَذُّرِ الْحَيَاةِ عَلَيْهِمْ فِيهَا، لَا بِالْإِبْعَادِ الْقَسْرِيِّ عَنْهَا، بِأَنْ يَكُونَ شَأْنُهُمْ فِي هَذَا كَسُكَّانِ أَمْرِيكَا قَبْلَ اسْتِعْمَارِ الْإِنْكِلِيزِ وَغَيْرِهِمْ لَهَا.وَلَا مُنْجَاةَ لِعَرَبِ فَلَسْطِينَ مِنْ هَذَا الْخَطَرِ الْعَظِيمِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ شَعْبَيْنِ اثْنَيْنِ هُمَا أَشَدُّ شُعُوبِ الْأَرْضِ قُوَّةً وَثَرْوَةً وَدَهَاءً وَكَيْدًا، وَعِلْمًا وَصَبْرًا وَجَلَدًا، إِلَّا بِاتِّحَادِهِمْ مَعَ سَائِرِ الشُّعُوبِ وَالْقَبَائِلِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى الِاسْتِبْسَالِ، وَالِاسْتِقْلَالِ فِي الدِّفَاعِ الْحَقِيقِيِّ عَنْ أُمَّتِهِمْ وَبِلَادِهِمْ، وَمَعَ سَائِرِ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي الدِّفَاعِ الْمَعْنَوِيِّ عَنِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَالْحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا اسْتِقْلَالَ لَهُمَا، وَلَا أَمْنَ عَلَيْهِمَا، مَعَ إِحَاطَةِ هَذِهِ الْقُوَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ بِهِمَا، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَخْطُوا خَطْوَةً وَاحِدَةً فِي طَرِيقِ الْوَحْدَةِ الْعَرَبِيَّةِ بَلْ خَطَوْا خَطْوَتَيْنِ وَاسِعَتَيْنِ فِي سَبِيلِ الشِّقَاقِ، وَالتَّفَرُّقِ بَيْنَ الْإِمَارَاتِ الْمُسَلَّحَةِ فِي الْجَزِيرَةِ الْعَرَبِيَّةِ، نَفَّرُوا بِهِمَا أَكْبَرَ الشُّعُوبِ الْإِسْلَامِيَّةِ مِنْهُمْ.(الْأُولَى): مُوَالَاةُ صَاحِبِ الْحِجَازِ الَّذِي أَعَانَ الْإِنْكِلِيزَ عَلَى فَتْحِ بِلَادِهِمْ ثُمَّ كَانَ هُوَ وَأَوْلَادُهُ مُثَبِّتًا لِأَقْدَامِهِمْ فِيمَا جَاوَرَهَا، وَحَائِلًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ سَائِرِهَا، بِأَنْ أَقَرُّوهُ عَلَى انْتِحَالِهِ لِنَفْسِهِ مَلِكَ الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ، وَعَلَى سَعْيِهِ لِإِخْضَاعِ تِلْكَ الْإِمَارَاتِ لِحُكْمِهِ بِالِاتِّكَالِ عَلَى قُوَّةِ الْغَاصِبِ الْأَجْنَبِيَّةِ، فَلَوْلَا وُجُودُ أَحَدِ أَوْلَادِهِ عَبْدِ اللهِ فِي شَرْقِ الْأُرْدُنِّ مِنْ قِبَلِ الدَّوْلَةِ الْإِنْكِلِيزِيَّةِ الْغَاصِبَةِ لِفَلَسْطِينَ، وَالْمُنْتَزِعَةِ لِلسِّيَادَةِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْهَا؛ لَأَمْكَنَ أَنْ يَتَّحِدَ عَرَبُهَا مَعَ عَرَبِ نَجْدٍ الْأَقْوِيَاءِ عَلَى إِنْقَاذِهَا، وَكَذَا مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ الَّذِينَ سَمَّى الْإِنْكِلِيزُ وَلَدَهُ فَيْصَلًا مَلِكًا عَلَيْهِمْ، بَلْ لَوْلَا افْتِتَانُهُ هُوَ بِمَا فَتَنُوهُ بِهِ مِنْ تَسْمِيَتِهِ مَلِكًا لِلْعَرَبِ، وَخَلِيفَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَمَا ثَبَتَتْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ قَدَمٌ لِلْمُسْتَعْمِرِينَ.(وَالثَّانِيَةُ): مُبَايَعَةُ جُمْهُورٍ كَبِيرٍ مِنْهُمْ لَهُ بِالْخِلَافَةِ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا- لَوْ صَحَّتْ كَمَا يَدَّعِي وَيَدَّعُونَ لَهُ- أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى تِلْكَ الْإِمَارَاتِ شَرْعًا أَنْ تَخْضَعَ لِحُكْمِهِ وَإِلَّا وَجَبَ قِتَالُهَا، وَإِخْضَاعُهَا بِالْقُوَّةِ، وَهَلْ كَانَ فِي مَقْدُورِهِمْ سَعْيٌ إِلَى شِقَاقٍ، وَتَفَرُّقٍ شَرٍّ مِنْ هَذَا؟ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَّحِدِينَ فَانْقَسَمُوا، وَصَارُوا أَحْزَابًا مُتَنَازِعَةً، فَنَسْأَلُهُ تَعَالَى تَغْيِيرَ الْحَالِ بِخَيْرٍ مِنْهَا، وَحُسْنَ الْعَاقِبَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. اهـ.
|